المصحف ق الحق الالهي

79 مصاحف روابط 9 مصاحف

تحديث قانون الحق الالهي

فاضي

7

الخميس، 7 أبريل 2022

العدل أساس الملك أحمد بن عرفة محاضر بوزارة الأوقاف

 

العدل أساس الملك

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه0

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ وَكُلُّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ ، وإِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ.

أما بعد:

فإن من القيم الإسلامية التى دعا إليها ديننا الإسلامى الحنيف قيمة العدل ، فبالعدل قامت السماوات والأرض ، وبالعدل تقوم الحكومات والمؤسسات، وبالعدل تتحق السعادة للأفراد والجماعات ، وبالعدل وإقامته بين الناس يكون النصر وتقوم الدول0

فما أحوج الأمة الإسلامية الآن إلى التعرف على هذا الخُلق الإسلامي الرفيع ، وكيف أنه بالعدل تحقق السعادة للأفراد والمجتمعات ، ويكون الجزاء الجزيل من الله عز وجل فى الآخرة .

أولاً: العدل فى القرآن الكريم :

إن المتأمل فى القرآن الكريم ، والمتدبر لآياته يجد أن الله تبارك وتعالى قد أولى قيمة العدل أهمية كبيرة ، واعتنى بها عناية عظيمة.

أمر سبحانه وتعالى بإقامة العدل وتحقيقه بين الناس فى كل شئ فى آيات كثيرة من القرآن الكريم فقال تعالى:(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). (سورة النحل: ٩٠).

قال ابن مسعود رضى الله عنه: هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل ، ولشر يجتنب.

وقال الإمام القرطبى رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية:اختلف العلماء في تأويل العدل والإحسان ؛ فقال ابن عباس : العدل لا إله إلا الله ، والإحسان أداء الفرائض ، وقيل:العدل الفرض ، والإحسان النافلة.

وقال سفيان بن عيينة رحمه الله: العدل هاهنا استواء السريرة ، والإحسان أن تكون السريرة أفضل من العلانية.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : العدل الإنصاف ، والإحسان التفضل.

قال ابن عطية رحمه الله : العدل هو كل مفروض ، من عقائد وشرائع في أداء الأمانات ، وترك الظلم والإنصاف ، وإعطاء الحق. والإحسان هو فعل كل مندوب إليه ؛ فمن الأشياء ما هو كله مندوب إليه ، ومنها ما هو فرض ، إلا أن حد الإجزاء منه داخل في العدل ، والتكميل الزائد على الإجزاء داخل في الإحسان.(تفسير القرطبي : جـ10صـ166).

وقال الإمام ابن العربي رحمه الله: العدل بين العبد وبين ربه إيثار حقه تعالى على حظ نفسه ، وتقديم رضاه على هواه ، والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر. وأما العدل بينه وبين نفسه فمنعها مما فيه هلاكها ؛ قال الله تعالى : {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}( سورة النازعات : الآية: 40 ) وعزوب الأطماع عن الأتباع ، ولزوم القناعة في كل حال ومعنى. وأما العدل بينه وبين الخلق فبذل النصيحة ، وترك الخيانة فيما قل وكثر ، والإنصاف من نفسك لهم بكل وجه ، ولا يكون منك إساءة إلى أحد بقول ولا فعل لا في سر ولا في علن ، والصبر على ما يصيبك منهم من البلوى ، وأقل ذلك الإنصاف وترك الأذى.(تفسير القرطبى : جـ10صـ166).

يقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: فالعدل الذي أمر الله به يشمل العدل في حقه وفي حق عباده، فالعدل في ذلك أداء الحقوق كاملة موفرة بأن يؤدي العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية والمركبة منهما في حقه وحق عباده، ويعامل الخلق بالعدل التام، فيؤدي كل وال ما عليه تحت ولايته سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى، وولاية القضاء ونواب الخليفة، ونواب القاضي ، والعدل هو ما فرضه الله عليهم في كتابه، وعلى لسان رسوله، وأمرهم بسلوكه، ومن العدل في المعاملات أن تعاملهم في عقود البيع والشراء وسائر المعاوضات، بإيفاء جميع ما عليك فلا تبخس لهم حقا ولا تغشهم ولا تخدعهم وتظلمهم. فالعدل واجب، والإحسان فضيلة مستحب وذلك كنفع الناس بالمال والبدن والعلم، وغير ذلك من أنواع النفع حتى إنه يدخل فيه الإحسان إلى الحيوان البهيم المأكول وغيره.

( تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان:صـ519).

مجالات العدل وأنواعه فى القرآن الكريم :بين القرآن الكريم لنا أن للعدل مجالات كثيرة لابد على المسلم أن يسعى للتحقيق العدل وإقامته فى شتى هذه المجالات ومنها:

1-العدل فى الشهادة: قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).( سورة البقرة:الآية:282).

ومن الفوائد فى هذه الآية الكريمة: أمره تعالى للكاتب أن يكتب بين المتعاملين بالعدل، فلا يميل مع أحدهما لقرابة ولا غيرها، ولا على أحدهما لعداوة ونحوها، ومنها: أن الكتابة بين المتعاملين من أفضل الأعمال، ومن الإحسان إليهما، وفيها حفظ حقوقهما، وبراءة ذممهما كما أمره الله بذلك، فليحتسب الكاتب بين الناس هذه الأمور، ليحظى بثوابها، ومنها: أن الكاتب لا بد أن يكون عارفا بالعدل، معروفا بالعدل؛ لأنه إذا لم يكن عارفا بالعدل لم يتمكن منه، وإذا لم يكن معتبرا عدلا عند الناس رضيا، لم تكن كتابته معتبرة، ولا حاصلا بها المقصود، الذي هو حفظ الحقوق ، ومنها: أن من تمام الكتابة والعدل فيها، أن يحسن الكاتب الإنشاء، والألفاظ المعتبرة في كل معاملة بحسبها، وللعرف في هذا المقام اعتبار عظيم ،ومنها: أن الكتابة من نعم الله على العباد التي لا تستقيم أمورهم الدينية ولا الدنيوية إلا بها، وأن من علمه الله الكتابة، فقد تفضل عليه بفضل عظيم، فمن تمام شكره لنعمة الله تعالى، أن يقضي بكتابته حاجات العباد، ولا يمتنع من الكتابة، ولهذا قال: { وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ}.( تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان:صـ121).

 

وقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)(سورة النساء:الآية:135).

2- العدل فى الحكم:أمر الله عز وجل بإقامة العدل فى الحكم بين الناس فقال جل وعلا:

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)( سورة النساء : الآية : 58).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة).( السياسة الشرعية فى إصلاح الراعى والرعية:صـ12).

3- العدل فى الولاية على اليتامى والنساء:قال تعالى:(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ)(سورة النساء : الآية : 3).

وقال تعالى:(وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا) (سورة النساء : الآية : 129).

والعدل في المعاملات الزوجية فرضٌ وحقٌ واجبٌ في النفقة والكسوة والمعاملة والعشرة كما يفعل الكرماء من ذوي العقل والدين والمروءة والكمال. تطعمها مما تطعم، وتكسوها مما تكتسي.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من كانت عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط)) (صحيح سنن الترمذي (912) .

4- العدل فى القول:قال تعالى:(وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (سورة الأنعام : الآية : 152).

قوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} ، أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالعدل في القول، ولو كان على ذي قرابة، وصرح في موضع آخر بالأمر بذلك، ولو كان على نفسه أو والديه، وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}( أضواء البيان : جـ1صـ547).

يقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: قوله تعالى:{ وَإِذَا قُلْتُمْ } قولاً تحكمون به بين الناس، وتفصلون بينهم الخطاب، وتتكلمون به على المقالات والأحوال

{فَاعْدِلُوا} في قولكم، بمراعاة الصدق في من تحبون ومن تكرهون، والإنصاف، وعدم كتمان ما يلزم بيانه، فإن الميل على من تكره بالكلام فيه أو في مقالته من الظلم المحرم ، بل إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع، فالواجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه، وأن يبين ما فيها من الحق والباطل، ويعتبر قربها من الحق وبُعدها منه. ( تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان:صـ314).

5- العدل بين الأولاد فى العطية:عن عامر قال: سمعت النّعمان بن بشير- رضي اللّه عنهما- وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطيّة، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتّى يشهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: إنّي أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطيّة، فأمرتني أن أشهدك يا رسول اللّه. قال: «أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟». قال: لا، قال «فاتّقوا اللّه واعدلوا بين أولادكم» قال: فرجع فردّ عطيّته(رواه البخاري).

وعن النعمان بن بشير رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اعدلوا بين أولادكم اعدلوا بين أبنائكم "( أخرجه أبو داود فى سننه وصححه الألباني فى صحيح سنن أبى داود حديث رقم 3544).

6-العدل فى الآخرة يوم القيامة:قال تعالى:(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ )( سورة الأنبياء : الآية : 47).

اعلم أنك لن تعرض على محكمة كمحاكم الدنيا، ففي محاكم الدنيا قد يجيد المحامون التزويرَ والتحريفَ، أو قد يجيد المحامون إقامة الحجة للخصم وربما يخرج الخصم وهو مدان، ولكن اعلم بأن الذي سيتولى حسابك من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

وقال جل وعلا: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)( سورة الكهف : الآيات : 47 – 49).

وقال تعالى:(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (سورة الزلزلة : الآيتان : 7 , 8 )  , وقال تعالى:(الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (سورة غافر : الآية : 17).

 فالمقصود أن عمل ابن آدم كله محفوظ ومسطور في كتاب عند الله جل وعلا، لا يضل ربي ولا ينسى.

ثانياً: العدل فى السنة النبوية:

إن المتأمل فى السنة النبوية يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوصى بالعدل فى أحاديث كثيرة من سنته الشريفة ومنها:

أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعدل فى الحكم بين الناس فعن أنس بن مالك- رضي اللّه عنه- قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إذا حكمتم فاعدلوا، وإذا قتلتم فأحسنوا، فإنّ اللّه- عزّ وجلّ- محسن يحبّ المحسنين»( أخرجه الطبراني فى الأوسط وحسنه الألباني فى صحيح الجامع حديث رقم 494).

قال الإمام المناوي رحمه الله:(إذا حكمتم فاعدلوا ) إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان (وإذا قتلتم) قودا أو حدّا أو ما يحل قتله (فأحسنوا) القتلة بالكسر هيئة القتل بأن تختاروا أسهل الطرق وأسرعها إزهاقا لكن تراعى المثلية في القاتل في الهيئة والآلة إن أمكن (فإن الله محسن يحبّ المحسنين) أي يرضى عنهم ويجزل مثوبتهم ويرفع درجتهم.(التيسير بشرح الجامع الصغير: جـ1صـ180).

وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص- رضي اللّه عنهما- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ المقسطين عند اللّه على منابر من نور عن يمين الرّحمن- عزّ وجلّ- وكلتا يديه يمين، الّذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا»(رواه مسلم).إنه بيان من الرحمة المهداة يستنهض همم الرجال الصادقين السائرين إلى رضا الله ومرضاته، والراجين الفوز بالجنان، أن يحرصوا على العدل في كل أمر يوكل إليهم، ومن ذلك أمر أهليهم حتى يفوزوا بهذا الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم من الجلوس على منابر عند الحق سبحانه في حضرته العلية.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:(وأحسن ما فسر به العادل أنه الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط وقدمه في الذكر لعموم النفع به).( فتح البارى : جـ2صـ145).

وبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن العدل فى حال الرضا والغضب سبب من الأسباب التى ينجو بها العبد فى الدنيا وفى الآخرة فعن أنس بن مالك- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ثلاث كفّارات، وثلاث درجات، وثلاث منجيات، وثلاث مهلكات فأمّا الكفّارات: فإسباغ الوضوء في السبرات ، وانتظار الصّلوات بعد الصّلوات، ونقل الأقدام إلى الجماعات. وأمّا الدّرجات: فإطعام الطّعام، وإفشاء السّلام، والصّلاة باللّيل والنّاس نيام ، وأمّا المنجيات:فالعدل في الغضب والرّضا، والقصد في الفقر والغنى، وخشية اللّه في السّر والعلانية. وأمّا المهلكات: فشحّ مطاع، وهوى متّبع، وإعجاب المرء بنفسه»

( أخرجه الطبراني فى الأوسط وحسنه الألباني فى صحيح الجامع حديث رقم 3045).

وبين النبى صلى الله عليه وسلم أن من السبعة الذين يظلهم الله عز وجل فى ظله عرشه يوم القيامة الإمام العادل فعن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «سبعة يظلّهم اللّه- تعالى- في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه: إمام عادل، وشابّ نشأ في عبادة اللّه، ورجل قلبه معلّق في المساجد، ورجلان تحابّا في اللّه اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إنّي أخاف اللّه، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر اللّه خاليا ففاضت عيناه»)(رواه البخاري ومسلم).

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعدل بين الأولاد فى العطية فعن عامر قال: سمعت النّعمان بن بشير- رضي اللّه عنهما- وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطيّة، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتّى يشهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: إنّي أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطيّة، فأمرتني أن أشهدك يا رسول اللّه. قال: «أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟». قال: لا، قال «فاتّقوا اللّه واعدلوا بين أولادكم» قال: فرجع فردّ عطيّته)(رواه البخاري).

وأخرج الإمام مسلم فى صحيحه أن امرأة بشير قالت له : انحل ابني غلاماً وأشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها غلاماً ، قال : " له أخوة " ، قال : نعم ، قال : " أفكلهم أعطيت مثل ما أعطيته ؟ " قال : لا ، قال : " فليس يصلح هذا ، وإني لا أشهد إلا على حق " .(رواه مسلم).

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعدل مع النفس فقد أخرج الإمام البخاري فى صحيحه  عن عون بن أبي جحيفة ، عن أبيه ، قال : آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان ، وأبي الدرداء ، فزار سلمان أبا الدرداء ، فرأى أم الدرداء متبذلة ، فقال لها : ما شأنك ؟ قالت : أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا ، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما ، فقال : كل ؟ قال : فإني صائم ، قال : ما أنا بآكل حتى تأكل ، قال : فأكل ، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم ، قال : نم ، فنام ، ثم ذهب يقوم فقال : نم ، فلما كان من آخر الليل قال : سلمان قم الآن ، فصليا فقال له سلمان : إن لربك عليك حقا ، ولنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " صدق سلمان ".(رواه البخاري).

وانظروا إلى سماحة هذه الشريعة الإسلامية الغراء فى الأمر بالعدل مع من مع الأعداء وقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم أمثلة كثيرة على ذلك منها ما أخرجه الإمام البخاري فى صحيحه عن الزهري ، قال : أخبرني عروة ، أن عائشة رضي الله عنها ، قالت : دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السام عليك ، ففهمتها فقلت : عليكم السام واللعنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مهلا يا عائشة ، فإن الله يحب الرفق في الأمر كله " فقلت : يا رسول الله ، أولم تسمع ما قالوا ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فقد قلت : وعليكم ".(رواه البخاري).

وأخرج الإمام أبو داود فى سننه بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ألا من ظلم معاهدا ، أو انتقصه ، أو كلفه فوق طاقته ، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس ، فأنا حجيجه يوم القيامة ".(انظر:صحيح سنن أبى داود حديث رقم 3052).

وضرب النبي صلى الله عليه وسلم لنا أروع الأمثلة التطبيقية العملية لقيمة العدل على أهل بيته صلى الله عليه وسلم ومن ذلك:ما أخرجه الإمام البخاري فى صحيحه عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها ، أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت ، فقالوا : ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد ، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتشفع في حد من حدود الله ، ثم قام فاختطب ، ثم قال : إنما أهلك الذين قبلكم ، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ".(رواه البخاري).

ثالثاً: من آثار السلف الصالح رضوان الله عليهم فى بيان منزلة العدل:

قال الإمام أبو حامد الغزاليّ- رحمه اللّه -: «إنّ حظّ العبد من العدل أمر ظاهر لا يخفى، فأوّل شيء يجب عليه من العدل في صفات نفسه أن يجعل الشّهوة والغضب أسيرين تحت إشارة العقل والدّين، فإنّه لو جعل العقل خادما للشّهوة والغضب فقد ظلمه، هذا في الجملة، أمّا تفصيلات ما يجب عليه في العدل في نفسه فمراعاة حدود الشّرع كلّها، وإنّ عدله في كلّ عضو أنّه يستعمله على الوجه الّذي أذن الشّرع فيه.

وأمّا عدله في أهله وذويه فأمر ظاهر يدلّ عليه العقل الّذي وافقه الشّرع، وأمّا إن كان من أهل الولاية فإنّ العدل في الرّعيّة من أوجب واجباته».

وقال الإمام ابن حزم- رحمه اللّه:«أفضل نعم اللّه تعالى على المرء أن يطبعه على العدل وحبّه، وعلى الحقّ وإيثاره».

وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة- رحمه اللّه -:«إنّ النّاس لم يتنازعوا في أنّ عاقبة الظّلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يروى: اللّه ينصر الدّولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدّولة الظّالمة، ولو كانت مؤمنة».

وقال: يجب على كلّ وليّ أمر أن يستعين بأهل الصّدق والعدل، وإذا تعذّر ذلك، استعان بالأمثل فالأمثل، وإن كان فيه كذب وظلم، فإنّ اللّه يؤيّد هذا الدّين بالرّجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم، والواجب إنّما هو فعل المقدور.

وقال أيضا: «أمور النّاس تستقيم في الدّنيا مع العدل، أكثر ممّا تستقيم مع الظّلم في الحقوق. ويقال: الدّنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظّلم والإسلام».

وقال أيضا: «العدل نظام كلّ شيء فإذا أقيم أمر الدّنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق. ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة».

وقال الإمام ابن القيّم- رحمه اللّه -:«إنّ من له ذوق في الشّريعة واطّلاع على كمالها وتضمّنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، ومجيئها بغية العدل الّذي يسع الخلائق يجد أنّه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمّنته من المصالح، تبيّن له أنّ السّياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأنّ من أحاط علما بمقاصدها ووضعها موضعها وحسن فهمه فيها، لم يحتج معها إلى سياسة غيرها ألبتّة.

فإنّ السّياسة نوعان: سياسة ظالمة، فالشّريعة تحرّمها، وسياسة عادلة تخرج الحقّ من الظّالم الفاجر فهي من الشّريعة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها».

وقال ابن القيّم- رحمه اللّه: «التّوحيد والعدل هما جمّاع  صفات الكمال».(موسوعة نضرة النعيم:جـ7صـ2816).

ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ، ربنا آتنا فى الدنيا وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل

كتبه أبو معاذ أحمد بن عرفة محاضر بوزارة الأوقاف  ومعيد بقسم الفقه المقارن جامعة الأزهر وعضو الجمعية الفقهية السعودية/ 00201119133367
Ahmedarafa11@yahoo.com

=============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق